في وداع الياسر للشاعر الفلسطيني محمود درويش
الشاعر محمود درويش في صورة
خص الشاعر الفلسطيني محمود درويش وداع الرئيس ياسر عرفات بمقال
فاجَأَنا ياسر عرفات بأنه لم يفاجئنا. كأنّ تطابقاً بين الشخص المريض والنص المريض قد حدَّد مسبقاً صورة النهاية, وحرم البطل التراجيدي من اضفاء خصوصيته على القَدَر. فلا معجزة هذه المرة, ولا مفاجأة, منذ أصبحت التراجيديا, المصورة في مسلسل تلفزيوني طويل, يومية ومألوفة وعادية!
لقد أعدَّنا ياسر عرفات, تدريجياً, لوداعه المتواصل أكثر من مرة, وعوَّدنا على موت غير عادي وغير معلن, بغارة من طائرة حربية, أو بسقوط طائرة مدنيّة في صحراء. لكنه - والأقدار تُضفي عليه سحر الاعجوبة - كان يسبق الموت الى الحياة, فنحيا معه في رحلة أدمَنَّا خلالها الرحيل الى هدف يتلألأ بجماليات المستحيل, وبشاعرية رعوية تُعيننا على طول الطريق.
من منفى الى آخر, كان الموضوع ينأى عن أرض الموضوع... ويدنو, في بلاغةٍ ترسم اللافتات بدمٍ قلنا انه يخصب الفكرة وينعش الذاكرة, ويرفع الحدود عن العلاقة بين الواقعي والأسطوري. كنا في حاجة الى اسطورة أنجزنا بعض فصولها. لكن الاسطورة في حاجة الى واقع, فهل سينجح الاسطوري في امتحان العمل على أرض الواقع؟ انه سؤال مُؤجَّل!
هو, ياسر عرفات, من استطاع أن يروِّض التناقض في المنافي, بمزيج من البراغماتية والدين والغيبيات. وتحوَّل, بديناميكيته الخارقة وتماهيه الكامل بين الشخصي والعام وعبادة العمل, من قائد الى رمز شديد اللمعان.
لم يزاول مهنة الهندسة لتعبيد الطرق, بل لشقّها في حقول الألغام. قد يحتاج التاريخ الى وقت طويل لترتيب أوراق هذا الرجل - الظاهرة. لكنه سيمنحه رتبة الشرف في علم القدرة على البقاء منذ الآن, ومنذ الآن سيتوقف طويلاً عند مغامرته - المعجزة: إشعال النار في الجليد: فقد قاد ثورة معاكسة لأي حساب, لأنها ربما جاءت قبل أوانها, أو بعد أوانها ربما. أو ربما لأن موازين القوى الاقليمية لا تأذن لأحد بإشعال عود كبريت قرب حقول النفط... وعلى مقربة من الأمن الاسرائيلي!
لم ينتصر في المعارك العسكرية, لا في الوطن ولا في الشتات. لكنه انتصر في معركة الدفاع عن الوجود الوطني, ووضع المسألة الفلسطينية على الخارطة السياسية, الاقليمية والدولية, وفي بلورة الهوية الوطنية للفلسطيني اللاجئ المنسيّ عند أطراف الغياب, وفي تثبيت الحقيقة الفلسطينية في الوعي الانساني, ونجح في اقناع العالم بأن الحرب تبدأ من فلسطين, وبأن السلم يبدأ من فلسطين.
وصارت كوفية ياسر عرفات, المعقودة بعناية رمزية وفولكلورية معاً, هي الدليل المعنوي والسياسي الى فلسطين.
لكنه, وقد اختزل الموضوعات كلها في شخصه, صار ضرورياً لحياتنا الى درجة الخطر... كرَبِّ أسرة لا يريد لأولاده أن يكبروا لئلا يعتمدوا على أنفسهم. لذلك أعدَّنا, أكثر من مرة, للتعوُّد على الخوف من فكرة اليُتم, وعلى الخوف من احتضار الفكرة في حال غيابه الجسدي. ومن فرط ما ناوش الموت ونجا, امتلأ لاوعيٌ فلسطيني خرافي بشعور ما بأن عرفات قد لا يموت! وهكذا لامَسَت اسطورته حدود الميتافيزيقيا.
لكن المفاجآت كانت تعمل في مكان آخر. فهذا الكائن الرمزي العائد من تأويلات اغريقية, كان في حاجة الى التخفيف من عبء اسطورته, لأن البلد في حاجة الى بناء وادارة, والى التخلّص من الاحتلال بوسائل جديدة. وهو الآن مكشوف امام الجميع, عرضة للمس والهمس والمساءلة. ومن سوء حظ البطل أن عليه أن ينتصر على الاعداء في معارك غير متكافئة, من جهة... وأن يصون صورته في المخيلة العامة من نتوءاتها الداخلية.
لكن, وهو المشبع بثقافة صلاح الدين التفاوضية, وبتسامح عُمَر, لم يأت على حصان أبيض, ولا ماشياً أمام جَمَل... فلا مكان للخيل والإبل في بلاغة الأزمنة الحديثة. بل جاء الى واقعه الجديد محمولاً على اتفاق أوسلو, ذي الجوهر الأمني الخالي من الإفراط في التفاؤل, والمفتوح على غموض النيات. لكنه عاد, وفي ذهنه خاطرة مرِحة: حتى النبي موسى لم يعد الى "أرض الميعاد"!
هي خطوة أولى نحو الدولة, يقول, ويعلم ان فلسطين ما زالت هناك: في القضايا المعلّقة على مفاوضات الوضع النهائي, حول القدس وحق العودة وغيرها من القضايا الشائكة. والطريق الى هناك لا يمر من أوسلو, بل من مرجعيات الشرعية الدولية.
وكان يعلم أن تلك المرجعيات لم تعد صالحة تماماً في عالم القطب الواحد, الذي رفع الدولة الاسرائيلية الى مرتبة المقدس الذي يُلهم "البيت الأبيض" بتعاليمه السماوية! ويعرف أيضاً ان المراسم الرئاسية وبطاقات الهوية وجوازات السفر لا تعني, بالنسبة الى المسؤولين الاسرائيليين, إلا ضرورة إلهاء المحرومين من الاستقلال بوجبات رمزية سريعة لا تشبع الهوية الجائعة. ويعرف أيضاً وأيضاً انه قد انتقل من المنفى الى سجن مؤثَّث بصور الأشياء لا بحقيقتها, وانه في حاجة الى إذن بالانتقال من سجن في رام الله الى سجن في غزة. ولا بأس من سجاد أحمر... ونشيد.
من هنا, بدأت محنة الرئيس, وداؤه السياسي والمعنوي. فهذا الأسير العظيم, المحكوم بالشروط الاسرائيلية القاسية, لا يستطيع التقدم نحو الفهم الاسرائيلي لعملية السلام, ولا يستطيع التراجع الى أبجديات الصراع التقليدية. ولا يعزِّيه أن من ندم على أوسلو وخان تداعياتها هو "الشريك الاسرائيلي" الذي لم يعد شريكاً. فما العمل؟
لم يختلف أحد على حق الفلسطينيين في المقاومة, فكانت الانتفاضة الثانية تعبيراً طبيعياً عن ارادتهم الوطنية واصرارهم على اعادة الحياة الى الأمل بسلام حقيقي يحقق لهم الحرية والاستقلال. لكن أسئلة كثيرة طرحت حول الوسائل التي ينبغي أن تخدم هذا الهدف, وتجنِّب الفلسطينيين خطر استدراجهم الى الحلبة العسكرية التي تَشَهّاها شارون, ليدرج حربه على الكيانية الفلسطينية الوليدة في سياق الحرب العالمية على الارهاب. منذ أضاعت أميركا الحدود بين مفهوم المقاومة ومفهوم الارهاب!
لم يعد أمام ياسر عرفات إلا الرهان على قَدَرٍ لا يستجيب, وعلى معجزة لا تُطيع هذا الزمن. المقاطعة, مقره ومنزله الوحيد, تنهار عليه غرفة غرفة. وهو يردِّد في نبرة نبوية: "شهيداً شهيداً شهيدا", فيثير في النخوة العربية قشعريرة كهربائية عابرة. لكن تكرار أخبار المأساة يجعلها عادية. وهكذا صار حصار عرفات أمراً مألوفاً... ثلاث سنوات من تسميم الحياة, ثلاث سنوات من استنشاق الهواء الفاسد, ثلاث سنوات من الهجاء الأميركي "لم يعد ذا صلة", ثلاث سنوات من الكدِّ الاسرائيلي لتجريد عرفات من صلاحيته وصلاحية رمزيته. بيد أن الفلسطينيين قادرون دائماً على الترميز: حصار الرئيس رمز لحصارنا, ومعاناته رمز لمعاناتنا. فهو معنا, وفينا, ومثلنا, نحبُّه لأننا نحبه. ونحبّه لأننا لا نحبّ أعداءه.
لم يفاجئنا هذه المرة. فقد أعدَّنا لوداع لا لقاء بعده. خرج المحاصر من حصاره ليزور الموت في المنفى, وليزوِّد الاسطورة بما تحتاجه من مكر النهاية. لقد منحنا الوقت ليتدرب الحزن فينا على أدوات التعبير اللائقة, ولنبلغ سن الفطام التدريجي. في كل واحد منا شيء منه. هو الأب والابن: أبو مرحلة كاملة من تاريخ الفلسطينيين, وابنهم الذي أسهموا في صوغ خطابه وصورته.
لا نودِّع الماضي معه... ولكننا ندخل, منذ الآن, في تاريخ جديد مفتوح على ما لا نعرف. فهل نعثر على الحاضر, قبل أن نخاف الغد؟