[b]مع أول مقارنة بين الشعر العربي والشعر الأوربي
للكاتب و المفكّر المغربي عباس أرحيلة
تمهيد:
اصطدمت النهضة العربية الحديثة بالحضارة الغربية بكل مظاهرها، وبدأ التعرف على التجربة الأوربية في الأدب والنقد في لغاتها أو مترجمة إلى غيرها من اللغات. وذهب الرواد الأوائل في ميدان النقد الأدبي يبحثون عن قيم نقدية في التراث، ويتطلعون إلى استنبات قيم جديدة من النقد الأوربي لتطعيم نقدنا العربي وتقويمه، وبلورة قضاياه.
وأقف عند محاولة لرائد مُجَدِّد في النقد العربي، تناول فيها صاحبها المقارنة بين الشعر العربي والشعر الأوربي، وسعى فيها إلى تحديد مواضع الاتفاق والاختلاف بينها. وتتمثل هذه المحاولة في أقدم مقال في النقد العربي الحديث، عنوانه ( مقابلة بين الشعر العربي والشعر الإفرنجي)، للشيخ نجيب حداد، وقد مر على كتابته أكثر من قرن.
أولا: الشيخ نجيب حداد(1867 – 1899م)(1):
أديب وُلد في بيروت، والدتُه بنت الشيخ ناصيف اليازجي (1800 – 1871م)، تلقى نجيب عن خاليه إبراهيم وخليل اليازجييْن، ورضع لبان النظم والنثر منهما، كما قيل. هاجر إلى مصر، وهو صغير السن، فأدخله ذووه إحدى مدارس الإسكندرية، فأتقن اللغة الفرنسية. وأصبح محررا بجريدة (الأهرام) بالإسكندرية، وهو في الخامسة عشرة من عمره، واعتزلها سنة 1894م، وأنشأ جريدة (لسان العرب) بالإسكندرية، وتولى رئاسة تحريرها.
عرَّبَ كثيراً من الروايات والمسرحيات الفرنسية، طُبعت كلها، وترك ديوان شعر سماه (ديوان الماضي). وكان المسرح في طور نشأته، فغذاه نجيب بروايات تمثيلية عديدة، كان لها أحسن وقع في النفوس، وطغت على مسارح الشرق العربي(2).
توفي في عنفوان شبابه، في الثانية والثلاثين، من عمره سنة 1899م.
وقد اعتبره مصطفى لطفي المنفلوطي(1924م) من أحسن كُتاب هذا العصر، وهو عنده شاعر من أرق شعرائه، ومترجم من أقدر المترجمين على الترجمة السهلة الفصيحة السائغة، وقال:" ولقد مر على وفاته يضع سنين، ولم أرَ بين السوريين والمصريين من سلك مسلكَه في ترجمة الروايات"(3).
واعتبره مارون عبود (1886 – 1962م) من أساطين كُتاب المقالة.
ثانيا: منطلقات قبل المقارنة بين الشعريْن
أ – مفهوم الشعر:
مهَّد للمقارنة بين الشعريْن بثماني تعريفات في فقرة واحدة، قال:
1 – الشعر هو الفن الذي ينقل الفكر من عالم الحس إلى عالم الخيال.
2 – وهو الكلام الذي يُصوّر أرقّ مشاعر القلوب على أبدع مثال.
3 – وهو الحقيقة التي تلبِسُ أحياناً أثواب المجاز.
4 – وهو المعنى الكبير الذي تُبرزه الأفكار في أحسن قوالب الإيجاز.
5 – وهو أحفى وِجدانات النفس، تتمثل للمرء فيحسبها سهلة، وهي في منتهى الإبداع والإعجاز.
6 - وهو الأنّةُ التي تخرج من قلب الثكلان، والنغمة التي يترنّح لترديدها الطروب النشوان، والشكوى التي تخفف لوعة الشاكي، ويأنس بها المحب الولهان.
7 – بل هو الحكمة يجدها الحكيم، فيُبرزها بما يليق بها من محاسن اللفظ، ويوازن بين أجزائها موازنةً تُحبب ورودها على الأذن، وتُقرِّب منالَها من الحفظ.
8 – وهو الجمال تراه العين فتحب أن تحفظ ذكراه، وتُبقيه صورة ماثلة يراه بها من لم يكن يراه[ ص126 – 127].
يلاحظ أن هذه التعريفات مستقاة من مصادر أجنبية، وإن لم يكشف عناها نجيب الحداد. ومجمل هذه التعريفات ( نقل، تصوير، مجاز، إيجاز، تعبير عن أحاسيس النفس، حكمة، جمال)، أراد بها الحداد أن يستوعب جوانب العملية الشعرية من حيث المضامين وطرق إبلاغها وتأديتها، والتعبير عنها فنيا وجماليا، حتى تظل ماثلة في الوجدان والخيال.
ويلاحظ كذلك أن تلك التعريفات قد خلت من عنصري الوزن والقافية، إلا أنا نجده يعتبر الطبيعة تقتضي التوازن والانتظام في عناصرها. وقد أرجع مَسَرَّة الشعر في النفس إلى طيب أوزانه على الأذن، وخفة تقطيعه على الحواس [ص127].
ب - الإنسان شاعر بطبعه:
يرى الحداد أن الشعر سجية في بني البشر، فما من أمة في التاريخ"بلغت غاية من المدنية، أو تأخرت دراجات في الهمجية إلا كان للشعر منها نصيب، وللنظم بين أفرادها سجية"[ص127].
ج – ولع الحداد بالشعر منذ صباه:
ذكر أنه كان له ولَعٌ بالشعر منذ صباه، وأنه صرف له أوقات فراغه، وقرأ دواوين الشعراء العرب كما قرأ كثيراً" من شعر الفرنسيين وشعر غيرهم منقولا إلى لغتهم من شعر اليونان والرومان والإنجليز والألمان والطليان... ومن أئمة الشعر الإفرنجي، والذين تضرب بهم الأمثال، ويُستشهد بأقوالهم في كل مقال [127 – 128].
د – الدافع إلى وضع هذا المقال:
كان سبب وضع هذا المقال أن أحداً سأله أن يستعين بما توصل إليه من قراءة الشعر العربي والإفرنجي، على وضع مقالة يُبيّن فيها المقابلة بينهما، ويتكلم "عن الفرق بيننا وبين أهل الغرب في معاني الشعر، وأنواع إيراده وأذواق ناظميه، وطرائق البيان في مآخذه، وإبراز المقاصد منه، إلى ما يتصل بذلك من قواعد نظمه اللفظية والمعنوية عند كل الفريقيْن"[128].
وقد أحس الحداد بأن المقابلة بين الشعريْن مطلب عسير يقتضي خبرة وبصيرة، وأن يعلم الدارس لغة كل شاعر، ويعرف منزلته الشعرية في أهل لسانه، ويكون قادرا على الحكم بين الشعر العربي وغيره. ولا نجد الحداد يدعي هذه الخبرة الواسعة، بل نراه يكتفي بالمعاني الشعرية التي وقف عليها منقولة إلى اللغة الفرنسية؛ ليُقابل بينها وبين الشعر العربي؛ أي أنه اكتفى بـ"إبراز المعاني العقلية التي تدل على مقدرة الشاعر ومنزلته في النبل والحكمة، مع بيان شيء من قواعد الشعر في لغة الفرنسيين"[129].
ونواجه هنا باحثا عربيا تشبّع بالقديم، ونهل من الحديث، فأراد أن يضع هذه المقابلة بين الشعريْن أمام القارئ العربي في نهاية القرن التاسع عشر.
هـ - توثيق المقال:
عنوان المقال:" مقابلة بين الشعر العربي والشعر الإفرنجي"، نشره نجيب حداد في مجلة البيان، التي أنشأها خاله الشيخ إبراهيم اليازجي (1847 – 1906م)، ووضعها مصطفى المنفلوطي (1924م) ضمن " مختارات المنفلوطي" [ ط1 – 1912م].
ثالثا: مقابلة بين الشعرين: العربي والغربي
1 – الشعر والترجمة:
من أوجه الاختلاف بين الشعر العربي، أن هذا الأخير، لا يُفْتقَدُ بالترجمة إلى أي لغة من اللغات الأوربية، في حين يُفتقَد الشعر العربي بالترجمة. فقد لاحظ حداد أن أكثر الاصطلاحات الكلامية في الشعر الإفرنجي وما فيه من ضروب التعابير اللفظية"قلما تتفاوت في درجات البيان ووجوه الإيضاح والتعبير،؛لأنها كلها ترجع لأصل واحد، وهو اللغة اللاتينية التي هي أم لغاتهم جميعا، وعنها يُشتق أكثر ألفظهم ومسمياتهم وطرق الإنشاء عندهم"[129].
فهو يرى أن النحو في اللغات متقارب، وضروب البلاغة الإنشائية متشابهة، فلا تختلف الأذواق إلا اختلافا يسيراً، ولعل يعود إلى طبيعة لغتهم من حيث اعتمادها على حقائق الأفكار، ومحدوديتها في تنويع الصيغ التعبيرية.
أما اللغة العربية، شأن اللغات الشرقية،"فإن النقل عنها مثل النقل إليها، يستلزم تبديل العبارة كلها بجميع وضعها تقريبا، وتقديم من كثير من ألفاظها أو تأخيره، وربما أدى الأمر بالناقل إلى تغيير الأصل بجملته إلى معنى يُقاربه، لعدم اتفاق المعاني بين اللغتين، وتباين أذواق أهلها في وجوه التعبير وأساليب المجاز وطرق الاستعارة، مما يرجع إلى مألوف كل من الفريقين في حال الحضارة وهيئة الاجتماع"[129 – 130ٍ].
فطبيعة الشعر العربي تستعصي على الناقل لخصوصية في معاني ذلك الشعر، وتباين أذواق أهله، واختلاف أساليب التجوّز فيه. والخلاف في جوهره اجتماعيٌّ حضاريٌّ. وهنا تختلف اللغة العربية عن اللغات الأوربية، فالترجمة بين هذه اللغات لا تكاد تحتاج فيها" إلى الزيادة على ترجمة الألفاظ بأعيانها ومواضعها، دون تغيير يُذكر في أسلوب العبارة أو تنسيق مفرداتها على الوجه النحوي"[129].
ومن هنا لا تَفْقِدُ الأشعار ُالمترجمة، من لغة إلى لغة أوربية، من جمال معانيها الشعرية شيئا، لِوَحدة الأصل وتشابه العواطف والأذواق، وتعويلهم على دقة المعاني واتفاقهم بينهم، وقلما تختلف أنواع التعبير عنهم. ويلاحظ الحداد أن تلك اللغة أضيق من العربية كثيرا"بحيث إنهم لا يجدون لإبراز المعنى صيغةً أو صيغتيْن، إلا وجدنا له نحو عشر صِيَغ أو أكثر، نتفنَّنُ بها في إبرازه، وتختلف درجة الشاعرية عندنا باختلاف الإجادة والتقصير فيها. وهي المزية التي امتازت بها لغتنا العربية عن غيرها من سائر اللغات"[130 – 131].